كتب هذا المقال في موقع صحيفة «السبيل» الأردنية بتاريخ 11 أيلول عام 2011
لقد كان الدكتور ممدوح حمادة المؤلف الدرامي السوري محقاً جداً عندما أطلق على مسلسله الأخير اسم «الخربة»، الذي تم تمثيله في منطقة جبل العرب جنوب سوريا، ولاقى نجاحاً باهراً، خاصة في أوساط السوريين، وبالتحديد سكان السويداء في الداخل والخارج على حد سواء، لا بل إن الكثيرين من المهاجرين العرب تابعوا المسلسل بشغف شديد، كل لأسبابه الخاصة، فمنهم من تابعه للتعرف على لهجة وبيئة سورية جديدة تماماً لم تجد من قبل طريقها إلى المسلسلات السورية الشهيرة، ومنهم من أغوته أحداث المسلسل الذي، رغم تمثيله في أحياء قرية قديمة تعيش خارج التاريخ المعماري الحديث بحجارتها البازلتية السوداء وأبنيتها التي صارت أقرب إلى الآثار منها إلى المساكن البشرية، إلا أن المسلسل لعب على أوجاع عربية عامة تؤرق الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، خاصة قضية الثورات، والوحدة الوطنية والتخلف عن اللحاق بركب التقدم والإصلاح بمختلف أنواعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أما كلمة «خربة»، أو «الخربي» بالعامية الدارجة في تلك المنطقة، فهي ذلك المكان الذي شهد يوماً نهضة ما قد تكون متواضعة، لكنه مع ذلك لم يتمكن حتى من الحفاظ على زخم ذلك التطور البسيط جداً، فتدهورت أوضاعه، ثم انهار ليصبح أثراً بعد عين، أو عصفاً مأكولاً، أو مجرد ركام من الحجارة السوداء، وهي بالطبع كناية واضحة عما آلت إليه أوضاعنا، باختصار، وكي لا نبتعد كثيراً عن تلميحات المسلسل ومكنوناته الدرامية، لقد خرب المكان، وغدا «خربة»، ليس فقط بأبنيته المتصدعة الآيلة للسقوط، بل أيضاً بسكانه الذين وصل الخراب إلى رؤوسهم وعقولهم وثقافتهم وأفئدتهم بسبب سياسات الإفساد والتخريب الممنهجة.
بعبارة أخرى، فإن الخراب المعماري ما هو إلا انعكاس للخراب الإنساني والمجتمعي والسياسي الذي حل بتلك «الخربة» التي صورها الدكتور ممدوح حمادة بلغته العامية البليغة بطريقة رائعة للغاية، ولا ننسى أن ابن خلدون مزج بين الانهيار المعماري والبشري في نظريته الشهيرة الموسومة «علم العمران»، وبالتالي فإن «خربة» حمادة رمز لخربتين، الأولى حضارية والثانية إنسانية.
من الواضح تماماً أن القائمين على العمل الدرامي أرادوا، من خلال جو الخراب الذي صوره مسلسل «الخربة»، أن يقولوا لمشاهديهم إن كل العالم من حولنا يتقدم، وينهض، ويصعد باتجاه شاقولي عامودي نحو الأعالي السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بينما نحن ما زلنا نعيش في “خرباتنا” التعيسة التي أبت إلا أن ترواح في مراحلها البدائية الغابرة، صحيح أن البعض استمتع بجو البساطة الجميل الذي أحسسناه في حلقات المسلسل، إلا أن تلك البساطة لم تكن من النوع المحمود بقدر ما كان الكاتب من خلالها يريد هجاء ذلك التخلف والتحجر الذي يلفنا من كل حدب وصوب، بينما وصلت الشعوب الأخرى إلى قمم سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية عالية للغاية.
وحتى تآخينا وتعاضدنا وتضامننا الذي نبالغ كثيراً في التفاخر به، وننظم الأشعار في مديحه، ما هو إلا خرافة كبرى يمكن تبديدها بسرعة البرق.
وقد لاحظنا كيف استطاع بائع الزيت القادم من خارج خربة «أبو نمر» و«أبو نايف» من دق أسافين سريعة بين أهالي «الخربة» ليجعل جو الوحدة والألفة الزائف يتبخر بسرعة مهولة، ولاحظنا أيضاً مرتزقة «الخربة» ممثلين ببائع «الكازوز» الذي كان ينتظر على أحر من الجمر تجمهر الأهالي في الساحة للتقاتل كي يبيع أكبر عدد من زجاجات الكولا الباردة بعد أن يكون المتقاتلون قد أجهدوا أنفسهم في القتال ضد بعضهم البعض وتصفية ثاراتهم التي أثارها وأججها بائع الزيت اللعين.
لقد نجح بائع الزيت في تأجيج سكان «الخربة» على بعضهم البعض لسبب بسيط وهو أن زعيمي القرية نفسيهما «أبو نمر» و«أبو نايف» هما أكثر من عمل على ضرب الوحدة الوطنية وتفتيها وتكريس الانقسام، وأن الفضل يعود بالدرجة الأولى إلى أهل القرية في نهاية المسلسل في توحيد الصفوف وتجاوز شيخي «الخربة» اللذين كانا يعملان على الدوام بسياسة «فرّق تسد» الاستعمارية، ولا ننسى أن «أبو نمر» ظل يكابر ويتستر على وجع أسنانه حتى فقد أقرباؤه أسنانهم على يد طبيب عابث ملعون، ولو أنه تنازل قليلاً عن صلفه وتعنته السخيف وقبل بعرض أسنانه على الطبيب لما وقع ما وقع من دمار لأسنان المحيطين به، وكأن «أبو نمر» نسخة طبق الأصل عن الطواغيت العرب الذين تأخذهم العزة بالإثم، فيظلوا يكابرون ويكابرون حتى يتعلموا الدرس متأخرين بعد أن يعيثوا خرباً في البلاد.
ولعل أكثر مشاهد المسلسل بلاغة وتأثيراً على المشاهد ذلك المشهد الذي يتخلص فيه وجيها القرية «أبو نايف» و«أبو نمر» تحت ضغط الأهالي من مماحكاتهما السخيفة وصراعهما الأسخف على قيادة الخربة، ويقررا العودة إلى جادة الصواب لإصلاح ذات البين بينهما وترميم ما انكسر وانهار على كافة الصعد في خربتهما، فيلتقيا على عجل بعد أن نسيا معاركهما الضارية على من يملك شوارب أجمل من الآخر، ثم يقررا التوجه فوراً إلى ساحة «الخربة» ليصفـّا على رأس «الدبكة» التي كان يؤديها شباب القرية في عرس الثورة والإصلاح والتغيير، لكنهما وصلا متأخرين، ليجدا أن العرس الذي قررا المشاركة فيه وقيادته على رأس دبكته قد تجاوزهما وانفض، ولم يبق هناك في الساحة سوى بعض العمال الذين كانوا ينظفون الساحة وينقلون الكراسي والطاولات التي استخدمها المشاركون في العرس.
وهذا المشهد بالطبع كناية واضحة عن انتصار الشعوب على طواغيتها في الثورات الحالية المباركة وتجاوزهم وتركهم منبوذين في ساحة خاوية على عروشها إلا من بعض القاذورات التي تركها المعرسون «الثوار» وراءهم، وكأن الكاتب يساوي بين القاذورات والحكام الساقطين والمتساقطين ممثلين بوجيهي «الخربة»! وكم كان منظر دريد لحام ورشيد عساف مؤثراً وهما منبوذان والدموع تنهار على وجنتيهما بعد أن أدركا أنهما تأخرا كثيراً بعد فوات الأوان في النهوض بخربتهما وتطويرها وإصلاحها وتوحيد صفوفها.
في كل الأحوال رسالة مسلسل «الخربة» واضحة جداً، خاصة أنه أتى في وقت الثورات العربية ومحاولات بعض الأنظمة الالتفاف عليها بالقمع الوحشي والكذب والتلفيق ووعود التطوير والتغيير الكاذبة، فالكاتب يريد أن يقول لنا في نهاية مسلسله الجميل إن الإصلاح ليس قراراً ارتجالياً تجميلياً سخيفاً يؤخذ على مضض تحت الضغط الشعبي، بل عملية مضنية جداً، ويجب أن تكون صادقة وعميقة ووطنية، وتحتاج إلى أكثر من فرمانات فجائية صبيانية لا تسمن ولا تغني من جوع، خاصة في بلدان حولوها إلى «خربة» سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية بائسة.
Leave a Reply
Want to join the discussion?Feel free to contribute!