بقلم د. كريستا سالاماندرا ، ترجمة رزان توماني
كتب هذا المقال في مجلة نقاد الدراما بتاريخ 3 أيار
«الانتظار» هو قصة أناس عاديين في صراعهم للهروب من فقر المدينة، عمل يعكس الدراما السورية الملتزمة بقضايا المجتمع، العمل من إنتاج العرب للإنتاج الفني عام ٢٠٠٦ ، المنتج الفني وائل سويدان ومن اخراج الليث حجو المعروف بإخراجه للعمل الكوميدي الساخر من خلال مسلسل «بقعة ضوء»، والمسلسل الشهير «خلف القضبان»، كلا العملين إضافة إلى الانتظار يعكس الدور الكبير لحجو بالنقد الاجتماعي واستعداده الدائم لتناول القضايا الحساسة.
كتب السيناريو اثنان من أهم كتاب الدراما السوريين : الصحفي نجيب نصير والروائي حسن سامي يوسف.
النص الذي تم العمل عليه لاحقاً من قبل المنتج والمخرج ركز على ”همومنا” كما يصف متابعو العمل ليحوز بهذا على احترام النقاد والمتابعة جماهيرية فبعد مرور عقد على الكتابة التلفزيونية حاز الثنائي «نصير، يوسف» على شهرة واسعة واتسمت كتاباتهم بالعمق، تشارك الكاتبان الانجذاب والاهتمام بالحارات العشوائية التي شكلت البنية الأساسية في مسلسل الانتظار بالاضافة إلى المسلسل الناجح «أيامنا الحلوة» ومسلسل «رجال ونساء» حيث يقدم الكاتبان الحارة كساحة للجريمة والانحلال الاخلاقي خلافاً لما هو سائد وراسخ عن الحارة الشعبية والذي يربطها بالأخلاق العالية والعلاقات الاجتماعية المتينة.
الحارة العشوائية في العمل وبم تحتويه من مزيج اجتماعي مهلهل ومتمزق تظهر كمكان «الناس فيه يأكلون بعضهم» كما يقول فاضل الشرطي البلطجي في المسلسل يؤدي دوره «قاسم ملحو» وبالنظر إلى تكرار أفعال المساعدة والتعاطف المتبادلة تبدو الحارة نفسها، وبمعنى أشمل المنظومة العامة هي من يأكل السكان ويبتلع طموحاتهم ويسحق أحلامهم، لا يصور مبدعو الانتظار الحارة على أنها استمرارية للتقاليد العريقة بل كنتيجةٍ للإهمال والفساد.
عناية مبدعي «الانتظار» واهتمامهم بأدق التفاصيل ينقل الحارة العشوائية إلى حيّز الحياة، كما يميز العمل موقع التصوير وهو ما يميز الدراما السورية عن منافستها الأقدم تاريخاً الدراما المصرية، فقد تطّلب الانتظار شهوراً من التصوير في حارات ضيقة معدمة وبيوت فقيرة وصغيرة، هذا الشكل من الانتاج الفني يضع فناني العمل وجمهوره في احتكاك حميم و مباشر لما يعتبره معظم أبناء الطبقة الوسطى في سورية مناطق خطرة على هامش الوعي رغم أنهم غير هامشيين مطلقاً إذ أن الأمم المتحدة تقول أن نسبة ٤٠٪ من سكان دمشق يعيشون في أحياء مخالفة، أحياء مثل الدويلعة في «الانتظار» ”باتت تحيط بدمشق كالسوار” كما يقول كاتب العمل نجيب نصير.
وكأي سكن مخالف آخر في العالم تستقبل هذه الحارات القادمين من الريف إلى المدينة، وكما هو الحال في أحياء الفقر في العالم الثالث يتصف سكن المخالفات في سوريا ببنى تحتية هشة، ازدحام سكاني، خدمات ضئيلة، قلة فرص العمل، وارتفاع منسوب الجريمة، يختبر فنانو «الانتظار» كل هذه الحالات أولاً من خلال عملية البحث الفني التي سبقت التصوير وتالياً من خلال أيام التصوير الطويلة ضمن الحارة.
التصاق المسلسل بالواقع المعاش وبتفاصيل الأجناس البشرية جاء من تفاعل عميق ومكثف مع سكان حارة الدويلعة وانعكس لمساتاً فنية على إيماءات الشخصيات، مكياجها، والديكور، الذي عمل عليه كل من مصمم الديكور داوود حسن والمكاكييرا ردينا ثابت سويدائي ومصممة الملابس سهى حيدر عملوا عن قرب مع المخرج وفريق العمل لتوثيق الواقع المحلي بأمانة، فكاميرا «الانتظار» تجول على مهل لالتقاط الأسفلت المهشم، النوافذ ذات القضبان، وحاويات القمامة المشتعلة وأسلاك الكهرباء المتشابكة لتقدم جمالاً غير رومانسياً، الحارة بحد ذاتها بطل من أبطال العمل.
يستعير مدير التصوير جورج لطفي الخوري تقنياته السينمائية ويضعها لتخدم الواقعية الاجتماعية الصارخة في العمل وتزيد من قوتها العاطفية موسيقى الجاز لطاهر مامللي.
تدور حكاية «الانتظار» حول شخصية روبنهودية وصحفي هامشي، كلاهما أبناء الحارة، وتبدأ الحلقة الأولى بمجموعة مشاهد سريعة تؤسس لمشهدية تهبط بِنَا بشكل متسارع من حارات دمشق الميسورة وسط البلد إلى الحارة العشوائية حيث عبود الذي أدى دوره تيّم حسن والذي لا تزور الكاميرا بيته طوال المسلسل يسطو على محلات في الأحياء الراقية ليوزعها على جيرانه في ظلام الليل، مشبعاً بشرف أخلاقي رفيع يتبع عبود شيفرته الأخلاقية الخاصة به، ويعتني كأخ كبير برجا الفتى المراهق الذي يؤيه أحمد لبابيد والد رجا هو الصحفي وائل الذي يلعب دوره الفنان بسام كوسا الذي يبقى موالياً لصحيفته الحكومية ذات الأجور المتدنية بينما تحثه زوجته التي تلعب دورها يارا صبري معلمة مدرسة دوماً على المحاولة للعمل مع قناة الجزيرة، مبادئه الاشتراكية تبدو وهمية في هذا المحيط.
وبسبب الانفتاح الاقتصادي يبدو أن شخصيات الانتظار وكمعظم سكان المدن السورية تتجه أكثر للعمل في القطاع الخاص، وأكثر تحديداً الاقتصاد غير الرسمي وذلك مع تضاؤل فرص العمل في القطاع العام و حاجة القطاع الخاص إلى العلاقات.
يعبر وائل خلال عشاء وكأس عرق يجمعه مع صديقه جهاد الذس يؤدي دوره الممثل وضاح حلوم عن إحباطه، فالحياة تمر من جنبه ويشعر بأنه معلق على قائمة انتظار لا تنتهي أقساط الشقة بالجمعية السكنية تناقض ارتباطه بأهل حارته الأسوا حظاً منه، يبدأ داخل بيته توترٌ حول الإمكانية والرغبة في الخروج من الحارة، شموع وائل الرومانسية عن الحارة وبما تحتويه من خير وانسانية تجابه بشدة من قبل سميرة التي تنتقد الوسخ والخطر بالحارة، وهو صراع يؤكد عليه القائمون على العمل طيلة حلقات المسلسل ليتم تصعيده في نقطة تحول درامية ومشهد يثير الرعب لدى المشاهدين ببراعته التقنية، فبينما يلعب مالك «ليث قرنيط» الابن الأصغر لوائل وسميرة كرة القدم في الساحة الخالية الوحيدة في الحارة فوق تلة رمال على حافة الاوتستراد تصدمه شاحنة صغيرة ويفقد بصره، يتعثر زواجهم وتنتقل سميرة مع أولادها لتسكن مع والدها سليم كلاس.
ليست مروة الوحيدة التي تود الخروج من الحارة في مسلسل «الانتظار» فشخصيات العمل تواجه عدم الاستقرار الدائم، مخدوعين بأسطورة الرحيل ينتظرون ترك الحارة ويأملون أن يكون وجودهم بها مجرد محطة للانتقال إلى حياة أفضل، نعلم ضمنياً أن أغلبهم لن يحصل عليها في العمل.
هناك أيضاً أخوين أيتام يؤدي دورهما بطريقة مضحكة ومبكية «تراجيكوميدية» كل من أيمن رضا وأحمد الأحمد يكسبان رزقهما من جلي الأراضي للطبقة الميسورة، بسام الذي يؤدي دوره الفنان أحمد الأحمد الأخ الأصغر يغادر الحارة إلى دبي راغباً بالارتقاء بوضعه فيعود بادعاءات أجنبية ووصفات لطبخ الكاري، وصابر الذي يلعب دوره أيمن رضا يتودد لجارته المطلقة سعدة إحدى الأخوات الأربعة الجميلات بنات بائع الخضرة ابو أسعد وزوجته أم أسعد (عمر حجو وضحى الدبس)، لكل واحدة من الأخوات مروة (سلاف معمار)، باسمة (نسرين طافش)، وهند (تاج حيدر)، مسارها الخاص للخروج من الحارة، حيث تقيم مروة علاقة مع رجلين متزوجين وائل الذي يعيرها الكتب وآخر يشتري لها شقة، ينكشف أمرها أمام أبيها وينتهي بضربها ضرباً مبرحاً.
تتسابق سعدة وهند للحصول على قلب صابر وكلاهما تفشل، أما باسمة تنتهي بالعمل بملهى نهاري بتحريض من جارتها (عبير شمس الدين). معظم شخصيات «الانتظار» يجدون أنفسهم بمتاهة محبطة وهذا ما يرمز إلى الوضع العربي وفقاً لرؤية مبدعي العمل، واللجوء إلى الخروج عن القانون بين الضعفاء يستخدم في العمل لإظهار عنف الأقوياء وبطشهم، حيث لا شيء عشوائي هنا، الضغط يبدو كجبل قوي، يختمر من تحته العنف وأحياناً ينفجر، مما يعرض هذه القوة او السلطة للخطر ويقف بوجهها ولكن دون التغلب عليها.
بالنسبة لشخصيات الانتظار وكما هو الحال بالنسبة لباقي السوريين أيضاً لا تشكل الحارة مرحلة أولية للانتقال إلى الاندماج الحضاري المدني بقدر ما هي عقبة في وجه حركة الصعود والارتقاء، فأشخاص مثل عبود وصابر ووائل قد ولدوا في الحارة الفقيرة ولكن البعض مثل الشرطي فضل وزوجته البريئة (رشا الزغبي)، انتقلوا إليها من الريف مع عدم توفر السكن بأسعار مقبولة في الأحياء النظامية.
أما أندريه سكاف الذي يؤدي دور غليص في العمل يلتجئ إلى الحارة عندما تعرضت حياته لمنعطف دهور حياته، فغليص خسر وظيفته المرموقة عندما تم الادعاء عليه كذباً بسرقة آلة حاسبة رخيصة، غليص يبيع بضائع عبود المسروقة من واجهات المحلات ويبلسم كآبته بشراب السعال المخدر، وسقوط غليص من الطبقة الوسطى المحترمة إلى البؤس والإدمان إنما يعكس هشاشة الوضع في عالم شديد التغير.
نادراً ما تغادر الكاميرا الحارة لتزور أخوي سميرة الأنانيان (محمد خير الجراح) وزوجته (سوسن ميخائيل) ووسيم (غزوان الصفدي) أشخاص محدثي نعمة بلا ذوق يمتعضون ويتذمرون من حاجة سميرة مما ينطوي على نقد اجتماعي شديد القوة، إخوة سميرة وزوجاتهم يشكلون نقيضاً درامياً لأهل الحارة المكافحين بشكل عام ولوائل بشكل خاص، الأخوان حوّلا محل أبيهما للحلويات الشرقية إلى باتيسيري ( محل معجنات) فخم للطبقة المخملية، هنا حيث تشير الفخامة البورجوازية الغربية إلى التحول الطبقي.
ينتهي المسلسل مع مسوّدة باهتة للتفاؤل مع عودة النظر لمالك، واستعداد وائل للعودة إلى سميرة وانتقاله للعيش معها ومع الأولاد في البيت الذي اشتراه لها أبوها في حي محترم بدمشق، بينما يواجه الآخرون مستقبلاً أسوأ فغليص يعود إلى إدمانه وعبود يقتل على يد منافسه الشاويش الغدار أدى الدور (نضال سيجري).
تصوير «الانتظار» للصراعات اليومية في الأحياء الفقيرة من المدن يتعارض بحدة مع القصص التاريخية والوفولكلورية الدارجة الان في الدراما العربية، فبغض النظر عن الظروف التجارية التي تسيّر هذه الأعمال فإن القائمين على مسلسل الانتظار ينتقدون ظروف االليبرالية الجديدة «النيوليبرالية» حيث يَرَوْن أن الرفاهية الاجتماعية فيها تفسح الطريق لطموحات فردية وعلاقات اجتماعية مخلخلة وتزيد انتشار الطموحات المحبطة للحارة العشوائية التي أصبحت في كل مكان.
يشار إلى أن مسلسل «الانتظار» عرض على أهم القنوات الفضائية مثل «ام بي سي» و«انفينيتي» فحاز على حماس محلي وانتشار عربي.
Leave a Reply
Want to join the discussion?Feel free to contribute!